الرواية الجديدة للكاتب محمد عبد الله سامي الحائز على جائزة (ساويرس الثقافية) مرتين: "الآن تأمن الملائكة". الرواية تحكي عن أيام خدمة أحد العساكر في حراسة معبد "أخناتون" بتلِّ العمارنة في عصرنا الحديث، وعن الزيارات الغريبة التي يشهدها ليلًا بالمعبد، وعن علاقته بزملائه في الحراسة، التي تطوَّرَت بسبب تلك الزيارات؛ فأفضت به إلى أماكن مختلفة بعيدة، وتركته مع تساؤلاتٍ وأفكارٍ أكبر ممَّا يحتمل فِكرُه.
تقييم من 0 قارئ
التصنيفات | أدب عربي |
---|---|
الرفوف | رواية / رواية اجتماعية / رواية فانتازيا / الصعيد |
القطع | 19.5×13.5 |
عدد الصفحات | 216 |
سنة النشر | 2021 |
ISBN | 9789773138738 |
انتهت السيجارة الأولى وخلّغت وراءها عالم فسيح لم يكن بالغه إلا بحلم ، فقام " الليمون " من مضجعه فوق الكثيب الأول ، ثم أشعل سيجارته الثانية وبدأ يمشى بين حشايا الكثبان، وكأنها تعيد ترتيب مواقعها لتمهد له طريقا يمشى فيه ، طريقا ً ذو أرض لينة . بدأت تميز أنفه رائحة مستساغة ، أخاذة ، تشبه رائحة ورود برية مختلطة ، يتمنى لو أن تزيد ، فتزيد ، حتى أصبحت نسمات تلك الرائحة هى التى تحمله إليها ، فاستسلم لأنفه الذى الذى ظل يبحث عن مصدر الرائحة إلى أن سلمته الكثبان إلى ساحة خفية فيما بينها ، وظهرت فى منتصفها بحيرة مائية كبيرة ، تعكس ذلك اللون الأرجوانى فى السماء وتفتته إلى درجات ، تفوح منها تلك الرائحة العطرة ، فاقترب من طرفها واغترف منها بكف يده غرفة خاطفة ، فأحس بالماء فى يده أبرد من المعتاد ، أثقل من الماء الجارى ، وإذ بالرائحة تعلق بكف يده بعد أن ألقى ما به من ماء فى البحيرة.
"كانت آخِرها حكايَة عن امرأةٍ فاتِنَة مَسحورَة، أجمل من حوريَّات الجَنَّةِ، تَزَوَّجها "علي" لِلَيلَةٍ واحِدَةٍ فَشَفَته بِجَمالِها وَحَلَّت المربوطَ. أمَّا المقَرَّبين مِنه فَقَد ظَنُّوا أنَّ ما حَدَث هو مُبارَكَةٌ من الشَّيخ "إسماعيل الإمبابي" نَفسِه؛ فَهُو شَيخُه القَديمُ، بل ساقَهم ظَنُّهم إلى أَنَّ الشَّيخَ "إسماعيل" ذاتَه تجَسَّد في صورَةِ الشَّيخ "جعفر" ليُساعِدَ تابِعَه "علي" في ضائِقَتِه. أَمَّا ما فَعَلَه الشَّيخ "جعفر" بالحاج "علي" حَقًّا، وما حَدَث حقيقةً في هَذِه الرِّحلَة، كان وسَيَظلُّ سِرًّا لا يَعلَمُه إلَّا الله واثْنَتاهم". "لِتَتابُعِ الأَيَّامِ مَفعولُ السِّحرِ، فِعْلُ الزَّمَنِ فيها هادِئٌ وحَيِيٌّ، لا يُضاهِيه شَيءٌ في مَهارَةِ فِعلِه، نَدَبه اللهُ لِيُقيمَ في البَشَرِ صِفَةَ النِّسيانِ، أَوْجَدَها اللهُ فيهِم واشتَقَّ لَهُم مِنها اسم «الإنسان»، ثُمَّ جَعَلَ الزَّمَنَ عليها رَقيبًا، على ألَّا يَترُكَ البَشَرَ على حالِهِم أبَدًا، يُنسِيهم حالَهُم الَّذي كانَ، فَيُبدِلُهم حالًا غَيرَه، ثُمَّ يُنسيهِم إيَّاه مَرَّةً أُخرى، يُقَلِّبُ قُلوبَهم ويُغَيِّر هَواها".
أراهن أنه لم يخطط للأمر مثلما خططت. لم يعكف شهرًا أمام بوابة المزلقان يملأ بيانات الرواد، أتحداه أن يباريني. كل بما لديه. فليشهر سلاحه، وأشهر سلاحي، أنا أتحدى الدكتور "ثابت" أن يبرز حجم مأساته، وأبرز أنا حجم مأساتي، ونقيسهما على مازورة "سيزيف" الأزلية. لا فرصة لديه للفوز أمامي أراهن أنه لم يكن يسعى للأمر من الأساس. أهكذا تسير الأمور ؟ أتسعى الأشياء لمن لا يسعى لها ؟ حتى الموت! لا يجب أن تسير الأمور بهذا الشكل، والا سأكون أنا آخر من يسعى إليه الموت. .... الدكتور "ثابت". من يظن نفسه ؟
"وعلى مقربة من بابٍ آخر في القصر كانت تقف «حُسن شام» صديقة «فريدة»... وقَفَت تنظر إلى صديقتها الوحيدة وهي ترتدي فستانًا فرنسيًّا، صُنْع يَدَيْ مدام «وورث»، وتضبط الوصيفاتُ ذيلَ الفستان، ويفرِدنَ طرحته على الأرض. نظرت فريدة إلى انعكاس صورة حُسن أمامها في المرآة، وحين تلاقت أعينهما رأت حُسن فرحة فريدة الطفوليَّة رغم الرَّجفة التي تنتاب أصابعها؛ فهي وإن كانت سعيدة لكونها ستتزوَّج حبيبها المَلِك فإنها تهلع لكونها أصبحت الملكة. تبتسم حُسن شام بثِقَة العارفين، وتقول لنفسها: «وهوَّ انتي فعلًا بقيتي الملكة؟ مين هنا يا ترى اللي هتبقى الملكة؟»، ثم تنظر مرَّةً أخرى إلى صديقتها في المرآة وتهزُّ لها رأسها بحنانٍ باعث على الطمأنينة". الرواية تدور أحداثها خلال 50 عامًا من تاريخ مصر، عبر حياة الملكة فريدة وعلاقتها بالملك فاروق، والتَّحوُّل الدرامي الذي حدث بحياتها بعد الانفصال من خلال الفتاة التي وُلِدَت في حيٍّ شَعبيٍّ في يوم زواج فاروق وفريدة؛ ما أدَّى إلى ارتباطها بفريدة مدى الحياة: حياة كل منهما.
"كتب العالم البروفايلي، أن «مسافر بلا حصان» أو «سامح»، أو «عوليس بن چويس»- شخصيَّة وإن كانت مريضةً نَفسيًّا إلَّا أنها عبقرية من حيث الذكاء، وأن قُدرَتها على التَّسلُّل والتَّخلُّل في شخصيات البيئة من حوله أو حتى في الشخصيات التي يتقمَّصها- كُلُّها أَدِلَّة على العبقرية والحِدَّة في السيطرة على المحيط بذات المتهم". عوليس -كما يرسمه "العصفوري"- بدون مراوغَةٍ... هو بطل الأسطورة الرومانية أو اليونانية القديمة، أو ربما شخص من الزمان المعاصر المُعاش، مُصابٌ باضطرابٍ هُويَّاتي Multiple Personality Disorder: أحيانًا يَظُنُّ نفسه سامح (رَجُل أعمال)، أو ربَّما بطل شاشات السينما، في أحيان رابعة عوليس هو الأمريكي الأصلي "مسافر بلا حصان"، الشخصية المركزية تتنقَّل عبر الأزمنة والأمكنة بطريقة سحريَّة، أو ربما بسبب المرض النفسي. يقدِّم شريف العصفوري نَصًّا روائيًّا بتقنيَّة الواقعية السحرية؛ إذ ينسج الخيال والأسطورة في الحياة اليومية.
تدور الرواية حول "إليزابيث"؛ آخر الفتيات اليهوديات اللاتي هاجَرنَ من مصر، وأُمُّها مدام "نخيل" كومبارس السينما في حقبة الأربعينيات، وواحدة مِمَّن رقصن الكلاكيت في كازينوهات شارع الهرم، وصديقة قاتل الإنجليز "چاك ماليكي" اليهودي. ما بعد فُقدان الأم وفقدان الانتماء للطائفة اليهودية في مصر تعيش إليزابيث حالةً من الضَّياع في مجتمعٍ تَبَدَّل عليها، ويرفضها لكونها يهوديَّةً تعيش في حي الظَّاهر بمصر القديمة. تدخل إليزابيث في عدد من العلاقات الاستغلالية بين رفيقَيْن: أحدهما مُسلِمٌ مُتأثِّر بالتيار الإسلامي المتطرِّف، والآخر مسيحيٌّ خاضع للأوروبيين، مُحتَقِرًا ذاته، لكنها بالتالي تستغلُّهما لخدمة كلبها في علاقة استنزافية طويلة تنتهي بكارثة حَرق سلسلة متاجر سنسبري بسبب فتنةٍ طائفيَّةٍ، ولم يَعُد لها خيار سوى الهروب.
"أنا أيضًا هارِبٌ من جحيم وطنيٍّ، آهٍ من جحيم الأوطان وما تفعله بقاطنيها! الروائح تتضخَّم في الماء وتَشتَدُّ، حتى الحيتان كانت لَتعافُ رائحة الخوف المنبعثة مِنَّا، وتتراجع عن فكرة التقامنا فتتركنا للمجهول!". تتتبَّع غادة سيرة مصنع كوتسيكا لصناعة الكحول والبيرة بمنطقة طُرة في مصر قبل أكثر من مائة عام، من خلال حكاية عائلة كوزيكا اليونانية التي استقرَّت بمصر في ظل ظروف اجتماعية وثقافية وسياسية ودينية فارقة في تاريخ مصر واليونان، يكتشف القارئ -مع رحلة الرواية- كيف هاجر تيوخاري كوزيكا من اليونان إلى الإسكندرية، وأصبح شاهِدًا على مذبحة الإسكندرية الشهيرة، وما وقع بعدها من احتلال بريطانيا لمصر، كيف أسَّس أول فابريكة للكحول في الشَّرق الأوسط بمساعدة أخيه "بوليخروني"، وألحق بها مصنعًا آخر لصناعة البيرة.
رواية أشبه بسيرةٍ ذاتيَّة، ولكنها ليست بذاتيَّة للكاتب نفسه، وإنَّما عن علاقاته العاطفية بفتيات الإسكندرية، مُؤرِّخًا لفترة زمنية تبدأ من أربعينيات القرن الماضي، مؤرِّخًا لتاريخ الصَّبيِّ الذي شَبَّ وسط أَخيِلَة فتياتٍ أَحبَّهنَّ. تدور الرواية حول الفتيات اللاتي تَعلَّق بهنَّ الشابُّ منذ صباه، سارِدًا ملامحهن ونفوسهن وأحداثهن الشهيرة، والتي تُعَدُّ تَحليلًا للمجتمع السكندري وتنوُّعاته وتاريخه المحلي. كتابة اشتهر بها إدوار الخراط، وهي الكتابة الحِسِّيَّة، حيث إن للرواية لحنًا طويلًا بين الحاضر والماضي على لسان الراوي، ليس فيه انقطاعات العودة، وإنما يتداخل الزَّمنان، فكُلَّما كَبُر الصَّبيُّ وأصبح شابًّا أو كَهلًا تجده صبيًّا في سطور أخرى. ويسطع حضور الشخوص حِسِّيًّا في سطور الرواية حتي لا تَنفَكَّ تأسِرُ القارئ بحديثها وحيواتها اليوميَّة.
ليست هذه النصوص سيرة ذاتية، ولا شيئًا قريبًا منها. ففيها من شطح الخيال، ومن صَنعَةِ الفَنِّ ما يشطُّ بها كثيرًا عن ذلك. * فيها أوهام – أحداث، ورؤى – شخوص، ونُويَّات من الوقائع هي أحلام، وسحابات من الذكريات التي كان ينبغي أن تقع، ولكنها لم تحدث أبدًا. * لعلَّها أن تكون صيرورةً، لا سيرة. وليست، فقط، ذاتيَّة. * هي وَجْدٌ، وفقدان، بالمدينة الرخامية، البيضاء – الزرقاء، التي ينسجها القلب باستمرار، ويطفو دائمًا على وجهها المُزبِدُ المُضيء. * إسكندرية، يا إسكندرية، أنتِ لستِ -فقط- لؤلؤة العُمرِ الصُّلبة في محارتها غير المفضوضة. * مع ذلك، أنشودتي إليكِ ليست إلَّا غَمغَمَةً وهَينَمَة. إدوار الخراط
يَبدو أَبطالُ هَذِهِ القصَصِ وكَأنَّهُم يَبحَثون عَن آمالٍ عَجَزوا عَن تَحقيقِها؛ رُبَّما لِأنَّها مُستَحيلَةٌ أَصلًا، كالطَّيرانِ بِلا تَوقُّفٍ؛ بَحثًا عَن هَدَفٍ غامِضٍ، يَنتَهي بِالبَطَلِ إلى الاستِسلامِ لِهُبوطٍ لا يُعرَفُ مَدى سَلامَتِه، ورُبَّما لأنَّها آمالٌ في تَحقيقِ بُطولَةٍ قَد لا يَستَطيعُ الكومبارس أَنْ يُحَقِّقَها إلَّا في مَشهَدٍ واقِعيٍّ قَد يُرضي ذاتَهُ المُحبَطَة، إلَّا أنَّه يَظَلُّ مَشهَدًا عارِضًا لا يَتعلَّقُ بآمالِهِ في البُطولَةِ عَلى خَشَبةِ المسرَحِ، حَيثُ الشُّهرَةُ والمجدُ، وهُوَ ما حَلُمَ بِهِ وتَمنَّاه. الكاتِبُ إِذَن لَيسَ أسيرَ الإحباطِ والقَرَفِ كَما يَبدو لأَوَّلِ وَهلَةٍ، وإنَّما هُو أَسيرُ مَشاعِرَ مُتَناقِضَةٍ مِنَ التَّمسُّكِ بالأَمَلِ والاستِسلامِ لِلإحساسِ بِعَدَمِ الجَدوَى، وأغلَبُ الظَّنِّ أَنَّ تَمَسُّكَه بالأَمَلِ هُو الغالِبُ، وهُوَ الأثَرُ الَّذي يَترُكُهُ في نَفْسِ القارِئ.
"ما زال طارق يعاني من اضطرابات نفسية رغم هَجْرِه الصحافة بعد اختفاء صديق مُقرَّب منه في ظروف غامضة في وسط البلد بالقاهرة. لسنوات عدَّة غَطَّى طارق الربيعَ العربيَّ في المنطقة أجمعها، وفي هذه الأثناء كتب مقالًا عن طبيب ليبي، يُدعَى أبو سلمى، رفع السلاح ضد القذافي، وفي النهاية ترك البلاد خائِبَ الأمل بعد اندلاع الحرب الأهلية. يرأس أبو سلمى الآن تنظيمًا يساريًّا إرهابيًّا يختطف سياسيِّين عَرَبًا. وقد جنَّد رسَّامَا الروايات المصوَّرة: كريم وعبد الرحمن؛ لرسم سيرته الذاتية. من المفترض أن يقابلاه سِرًّا في زنجبار، حيث يتقاطع طريقهما مع السوداني جمال والأسبانية چوليا: موظَّفين في الأمم المتحدة في السودان، يتورَّطان في محاولة فاشلة لتهريب خادمة فلبينية من الاستغلال الجنسي. الطابور الخامس رواية تأخذ القارئ عبر تقلُّبات مصر وليبيا والسودان وسوريا وبلاد الباسك وبرشلونة وزنجبار. رواية عن الحب وعشق السفر وندامة الأحلام الضائعة."
" في عاصمة العالم، مدينته المسحورة اليونانية القبطية، برهبانها، وتجارها بهلواناتها، ممثليها ومغتيها وصناعها، بطاركتها وبغاياها، غوغائها وغوانيها وخوذاتها، مكتبتها الواحدة الوحيدة غير المتكررة وحماماتها بالالاف كنائسها السرية تحت الأرض وأعمدة معابدها الرخامية الصفيلة. عذاباتها ومهرجاناتها. السيرك والمنارة والمسرح وهياكل جوبيتر وزيوس وأمون، المذابح في الساحات والمعارق ومعاصر النبيذ وسوامع الغلال الذهبية وأشرعة السفن المسرطة والمربوطة بالحبال في الميناء الشرقية، والفلول الباقية المطاردة من كهنة الدين العتيق وشهداء الهرطقـة اليسوعية الجديدة، وفلاسفة اليهود وعلماء الجغرافيا والطبيعة والشعراء مايـرالون برسـعـون اليونانية القديمة بصباغات وزخرفات لا حياة فيها، والناس الناس الناس الذين لا أسـم لـويـم بـجـمـوعـهيم الفقيرة التي لا تنتهي أبدا ياكلون وبكدون ويلسلون، ويرحمونوبتعون بشهيد ويتمزقون بشفاء لا يوصف وموتون بلا أهمين لا يعرفهم أحد ولن يعرفهم أحد."
يعود خليل المراكبي إلى القاهرة من نيويورك بعد غيابٍ طويل ليحاول اكتشاف كيف مات صديقُه العزيزُ في ظروفٍ غامضة، بعد اتِّهامه بقتل مدير أهمِّ مؤسَّسةِ أبحاثٍ في البلاد. لم يتوقَّع خليل أن تقضي الرِّحلةُ خطوةً بعد الأخرى على ما تبقَّى من أوهامٍ بشأن عمله وزواجه وصداقاته وعلاقاته العاطفيَّة، أو أن تفتح أمامه احتمالاتٍ كثيرةً لم يَكُن يعرف بوجودها. تسحب الرواية القارئ إلى عوالم القاهرة كمدينةٍ مُغريَةٍ، مُتعِبة، قاسية مُحمَّلة بالوعود والتهديدات، بالأحلام والكوابيس، حيث يقبض الماضي بيدَيْن مُرتجِفَتَيْن على عُنُقِ حاضِرٍ يحاول التَّملُّص والنجاة دون أن يعرف طريقه. فهل ينجو خليل ويتمكَّن من عبور حقل ألغام تنفجر في وجهه لغمٍ تلوَ الآخر؟ وهل سيتمكَّن بمساعدة الحُبِّ والصَّداقة من ترويض شياطين لَطالَما لاحَقَته أو التَّعايُش معها؟
لا وقتَ للنوستالچيا شهواتُ الرُّوحِ غَيرُ مَقسومَةٍ والمَعنى اللا مَحدود تِنِّينٌ شَرِبتُ معه الرَّاحَ". رواية شَذريَّة تُعدُّ من أبرز كتابات "الخرَّاط"، تتململ فيها الذكريات خيطيَّة السَّرد. تعتمد الرواية على السرد الحداثي الذي أبدع فيه "الخرَّاط"مُحوِّلًا مدينته الإسكندرية لنسيجٍ سَرديٍّ منفصل بذكريات متباعِدَة السنين، لكن يطويها سَردٌ كُلِّيٌّ أكبر في نفس "الخرَّاط"والمدينة. تتناول الرواية عددًا من الشخصيات التي رحَلَت عن دنيا "الخرَّاط" تِباعًا، فيتجوَّل في ذكراه باحِثًا عنهم، وساردًا لحظات لقائهم الأولى ولحظات موتهم التي حضرها أو تلك اللحظات التي كانت وقائِعَ وأخبارًا طعَنَت في صدره كالصاعقة حينًا، وصُدفةً حينًا."
أحيانا يتعب من التفكير، وتصيبه أحلام اليقظة بالملل، فيراقب ظله على كشافات أعمدة الإنارة، يشهد الخلق، يبدأ ظله أسفل عامود الإنارة صغيرا ضعيفا، يدفع قدمه محاولا دهس رأس ظله فيكبر، يهرب الظل من قدمه بالتضخم، يتحداه، يحاول مرة أخرى أسرع حتى يدهسه فيزداد طولا، يصبح عملاقا يملأ بين عامودي الإنارة، جبارا يرقد على الرصيف، يتخيل ظله يجلس ويمد يده يشحت من المارة ليذله، يسرع خطاه هربا، ليس أنا، يختفي ظله، ويطل برأسه مرة أخرى ضعيفا أسفل عامود الإنارة التالي، مئات الأعمدة تنتظر ظل راضي، دورة حياة لا تنتهي تحت قدميه.
تعمل "دنيا" يوتيوبر في مجال ألعاب الڤيديو جيمز، وتحلم أن تكون مُصمِّمةً لتلك الألعاب، وترتبط بكُتُب التراث، وكذلك بعلم الآثار، والفنون التشكيلية، فتُسقِط كلَّ ذلك على عُمَر والجِنِّي، فتظلُّ الأكثرَ حضورًا من خلال معارفها، رغم غيابها. عالم أسطوري مُستَلهَم من كُتُب التراث وألعاب الڤيديو والواقع المُعاش، حيث يتبادل الحكي: بطلٌ مهزوم يبحث عن حبيبته، التي ترَكَته مريضًا بمرض غامض، ومخلوقٍ سَكَن الأرضَ قبل البشر، يبحث عن مولاته، التي منحته أسطورةَ وجوده. "دنيا" المختفية -والمروي عنها- هي الرابط بين "عمر منصور الخواجة" وبين "جِنِّيِّ التماثيل". وتتوازى حكايات عائلة دنيا مع حكايات عائلة عمر، وكذلك الأمراض المتوارَثة والواقع الذُّهاني. واقعٌ يستدعي حكايات الماضي والمستقبل لتتفتَّح مسامُّ الكون على أسئلةٍ لا تنتهي، منذ نشأة الأرض، إلى زوالها.
"أرادَ فؤاد أن يغتسل من نزيف المشاوير الضَّائعة والكلام المزيَّف وجداول المواعيد الأسبوعية فارغة المعنى، من ضجيج المقاهي واللقاءات وتَصَنُّع الفنَّانين والمثقَّفين المُقرِف، من أصحابه الذين شربوا من دماء بعضهم البعض حُبًّا وغيظًا، مُدمني الحياة ولصوص الكُتُب المَهَرَة، من أُمِّه وخوفها الخانق منه وعليه، ومشاجراتهما المتواتِرَة حول كل شيء، من "خُذ وهات" و"فينك يا عم و"تحت النظر" و"كلُّه بحسابه". أرادَ أن يترك وراءه المدينةَ الفاجرة وغواية الشوارع ونداءاتها الرخيصة على أرصفة البيع والشراء. الأغلال تشدُّه كل مرَّة إلى الفرحة الخاسرة، ولو توضَّأ بالنور ألفَ مَرَّة لَمَا وضع عنه أثر الأوزار والذنوب. فهل نسي ما قاله صديقه العجوز له، في حُلمهما السِّرِّي آخر مرَّة؟ "كما حطَّمتَ حياتَكَ هنا. في هذا الرُّكن الصغير، فقد حطَّمتَها في العالَم كله". هكذا؟! بلا أملٍ يا "كافافي"؟! نعم، وبلا يأسٍ يا أمير."
أحيانا تكون البوصلة الوحيدة في مُواجهة يَمِّ الحياة صوتٌ صغيرٌ يأتي من الأعماق، يُوجِّهُ و يُنبِّهُ يُسمَّى مجازًا الحاسَّة السَّادسة، ولكنَّها الحاسَّة الأولى، الحاسَّة الخارقة، تلك التي تتجاوز الحواسَّ المادية لتتَّصِل بماهيَّة الأرواح، أو رُبَّما تكشِفُ عن الغيب ستاره.
وفي صباح 5 يونيو من هذا العام (1992) استيقَظتُ فإذا خاطِرُ الدَّعوة لاحتفالٍ قوميٍّ بالعيد الخامس والعشرين للنكسة يختلط بخاطرها الشُّروع في تجميع هذه القصص، الذي ظلَّ يُلِحُّ عليَّ حتى لم أعد أستطيع منه هربًا، وإذا بي أقاوم أسباب تردُّدي في نشرها، وأقول لنفسي: لعلَّها لو لم تَصلُح أن تكون قصصًا.. تصلح أن تكون وثائِقَ عن الزمن الذي عشناه. بأفراحه وأتراحه.. وضحكاته ودموعه؛ ففيها ظِلالٌ كثيرة من أوجاع عَقد الستينيَّات، الذي ابتعَدَت ملامحه، وغرقت مَسرَّاته وأحزانُه، حتى ليبدو -في ضوء ما يجري الآن- وكأنه من عقود العصر الحجري.
أحدث المحاسب وزوجه -وقد اقتحما الجلسة اقتحام الغزاة المتعجرفين- أثرًا كقرقعة سوط، اخترق هواء الصالة فأربكها وقوض نظامها، وتنحى عم كامل مشدوهًا، مستاءً من تأويل حديثه على غير ما قصد، بينما ألجم السؤال الأخير لسان الأستاذ جودت فثبت بصره على زوجه ينتظر الغوث، ونطقت ملامح السيدة أليفة بالتوتر إزاء هذا التدخل الصفيق الذي لم يراع الأصول، وأرادت بشدة أن تمسك لسان جارها المنفلت عن الاسترسال، وأن تكف جموحه الذي يخلخل ما أقامت حول شئونها الخاصة من أسوار ظنتها منيعة. لن تفصح مهما جرى عن أسرارها، والمجتمعون أغلبهم جهلاء بالحقائق الدامغة التي أودعتها صندوقًا موصدًا بالشمع الأحمر، وهل في مقدورها وإن اضطرت أن تطلعهم على شيء كهذا؟
ذاتَ يَومٍ، صارَ لَدَى السَّكَندَريِّين قُدرَةٌ على الطَّيران، فقط داخِلَ مَدينَتِهم، فلا يَقْدِر أَيُّهُم على الطيران خارِجَها، ولا يقدر غَيرُهم على الطَّيران فيها، أو خارجها. لماذا؟ وكيف؟ ومَن هُم عَبَدَةُ النَّورَسِ؟ وهل هُناكَ مَن يُريدُ شَرًّا بهذا الوَطَن؟ وهَل يَرى المُهندِس عَلي الشَّيطانَ فِعلًا؟ وهل كُلُّ ما تَحتاجُه سُندُس "كريم" تفتيحِ بَشرَةٍ، وعريسًا وَسيمًا؟ ما سَبَبُ الطَّيرانِ أَصلًا؟ وفي مَصلَحَةِ مَن؟ كُلُّ هَذِهِ الأَسئِلَة، وأكثر، لا تَهتَمُّ هذه الروايَةُ بالإجابَةِ عَنها، وإنَّما يُحاوِلُ مُؤلِّفُها سَرْدَ ما يَذكُرُه مِمَّا وَقَعَ في المَدينَةِ القَديمَة (الَّتي يُحبُّها البعضُ بجنونٍ، ويَكرَهُها آخرون كالطَّاعون) في الأَعوامِ المُربِكَة الَّتي تَلَتْ خَريفَ 2005، عندما طارَ النَّاسُ لأَوَّلِ مَرَّة.
مَرَّةً قالَ لَهُ أَحَدُهُم: ضَعْ كُلَّ ما يُثقِلُ عَليكَ في سَحابَةٍ، واترُكْها تَمضِي وَراءَكَ، وعِندما حاوَلَ أَنْ يَفعَلَ ذَلِكَ، تَكاثَفَت السَّحابَةُ، ولَم تَتبَعْه، ولَكِنْ ظَلَّ لِفَترَةٍ يَتَتَبَّعُها هُو إلى أَنْ مَلَّ، فجَمَعَ أَشياءَهُ ووَضَعَها مَرَّةً أُخرى بِداخِلِه، وكَفَّ لِفَترَةٍ عَن النَّظَرِ للسَّماءِ.
"يتقدَّم وَلدان عاريان مُتطابِقا الشَّكل، في يَدِ أحدهما سِكِّينٌ، والآخر كاميرا، في مَركزها عَينٌ حَقيقيَّةٌ، سِكِّين في القَلب، سِكِّين في الرِّئة، سكِّين في السُّرَّة. يَسقط المَقتول في أرضِ الحمَّام". المجموعة القَصصيَّة "صورة شخصية للموت"، المُؤَلَّفة من تسع قصص، ينتقل فيها الراوي بين عوالِمَ خياليَّة مُظلِمة داخل ذواته، عوالم مُؤَلَّفة من غُرَف حمراء أو خضراء، لها روائح عَطِرة أو عَطِنَة. ينتقل فيها الراوي بين الطفولة والكهولة، وتشغله تساؤلات عن الحقيقة: عن حقيقة المسارات. للقصص حِسٌّ سَرديٌّ أميَلُ للكتابة الشعرية، يسرد فيها حكايات الكيانات متعدِّدة للسَّارد، فتارةً يصبغ علي القصة صوتَ السَّرد الألوهيِّ، وتارةً صوت الكاتب، وتارة أخرى صوت الموت. المجموعة هي الأولي لكاتبها "إسلام أحمد"، وتتميَّز برؤية سينمائية، بالإضافة إلى اسكتشات الرَّسَام الشاب "محمود سليمان"، التي أضفت إليها مذاقًا من الوحشية وظُلمَة النفس.
انتهت السيجارة الأولى وخلّغت وراءها عالم فسيح لم يكن بالغه إلا بحلم ، فقام " الليمون " من مضجعه فوق الكثيب الأول ، ثم أشعل سيجارته الثانية وبدأ يمشى بين حشايا الكثبان، وكأنها تعيد ترتيب مواقعها لتمهد له طريقا يمشى فيه ، طريقا ً ذو أرض لينة . بدأت تميز أنفه رائحة مستساغة ، أخاذة ، تشبه رائحة ورود برية مختلطة ، يتمنى لو أن تزيد ، فتزيد ، حتى أصبحت نسمات تلك الرائحة هى التى تحمله إليها ، فاستسلم لأنفه الذى الذى ظل يبحث عن مصدر الرائحة إلى أن سلمته الكثبان إلى ساحة خفية فيما بينها ، وظهرت فى منتصفها بحيرة مائية كبيرة ، تعكس ذلك اللون الأرجوانى فى السماء وتفتته إلى درجات ، تفوح منها تلك الرائحة العطرة ، فاقترب من طرفها واغترف منها بكف يده غرفة خاطفة ، فأحس بالماء فى يده أبرد من المعتاد ، أثقل من الماء الجارى ، وإذ بالرائحة تعلق بكف يده بعد أن ألقى ما به من ماء فى البحيرة.
"التَّرَدُّدُ والتَّأمُّلُ استَغرَقَا الكَثيرَ من مُؤلِّفِ هذا الكِتابِ، هُنا قصَصٌ لا سِيَرٌ ذاتِيَّةٌ، وإنْ كان التَّمييزُ يَزدادُ صُعوبَةً بَينَهُما، بعدَ دُخولِ الشَّخصيِّ إلى المَتْنِ؛ فَصِرنا لا نَعرِفُ إنْ كُنَّا في حُلمٍ أَمْ عِلمٍ، نَقرَأُ صَحافَةً أَمْ أَدَبًا، نُرَبِّي ذَواتِنا أَمْ نُرَبِّي خَيالنا... بَينَ كُلِّ هَذِهِ الثُّنائِيَّات تَتَحرَّكُ عَوالِمُ أَربَعَةَ عَشرَ نَصًّا". "دونَ وَعيٍ مِنِّي حاذَيتُ حَذوَه وسِرتُ بِلا إِرادَةٍ في فَلَكِه، حيثُ نَشَرتُ كِتابي، لَم أُكَرِّرْ ذَلِكَ، بل طفقت أَكتُبُ، ثُمَّ مَحَوتُ كُلَّ المُسَوَّداتِ، مُقَلِّلًا من فُرَص النَّشرِ قَدرَ الإِمكانِ، أَو مُتعامِلًا مع ما أَكتُبُ كمادَّةٍ خامٍ تَحتاجُ لتَحرير. التَّحريرُ أَبَديٌّ، أُدَقِّقُ وأُراجِعُ، أتَهرَّبُ من النَّشرِ، مُرَبِّيًا حيواناتي المُتَخيَّلَة، طامِسًا إيَّاها، مُعيدًا تَشكيلَها من جَديدٍ، ماحِيًا آثارَها في كَثيرٍ من الأَحيانِ".
يبدو أن هذا الحجم المخروطي الضخم سَبَّب عطلًا في محرِّك السيخ فتعثَّرَت لأجله عملية الشواء، ومن أجل إشعال نيران الشَّوَّاية قام الشيف بتدوير السيخ يدويًّا حول نفسه إلى أن دار المحرِّك الكهربي أسفله وبدأ المخروط رحلته في النضوج. قَطعًا لم يحتمل مشهد كهذا واقع تحت ضغط الإنتاجية المفرطة؛ تكوَّنت بنيته من قاعدة متناهية الصِّغَر، تحمل على عاتقها قمَّةً شديدة الاتساع، قوامها شبكة ضخمة لآلاف من الفنانين والعمال الثقافيين، وغيرهم من أصحاب المهن التكميلية الذين يتقاطعون معهم في دوائرهم العملية القريبة والبعيدة، هكذا تراكَمَت العناصر الفاعلة في هذا المشهد على مدار عقود، مؤمنين بأن الفن مهنة شأنها شأن أي مهنة أخرى.
أحبَبتُ أُمِّي ليسَ كَمِثلِ ما أَحبَّ إنسانٌ أُمَّه، كانت هي كُلَّ عالَمي، أنا بِكريُّها، أوَّلُ أبنائِها الذُّكورِ، الأُمُّ الصَّعيديَّةُ شيءٌ آخَرُ ليسَت كَكُلِّ الأُمَّهات، الحَبْلُ السُّرِّيُّ الذي يربطُ الأُمَّ الصَّعيديَّةَ بِوَليدِها لا يَنقَطِعُ أبدًا، أنا مَربوطٌ بحَبلي السُّرِّيِّ إلى أُمِّي ما حَييتُ.
يلمحنى الحاوى .. صوته يناديني .. " يا دانتي ! يخترق اسمى سماء المدينة المزدحمة ، يجاهد فى السير عبر القطعان البشرية للوصول إلي فأحاول الخروج من الزحام بعيداً عنه أسمع ضحكاته وبعض ما يبصقه من كلام " أين اختفت ! الفرقة تنتظرنا يا أخى ! لقد وعدتني ! " . أواصل السير .. جهداً شديداً إذ أحمل حزمة الصحف على كتفي .. " تعال هنا يا موزع الصحف خذ الزجاجة ولنصنع معاً عرضاً للأيام الخوالى ! هيا لا تخف ! ".
" نظر إالى أسفل ثم انحنى ليعيد عقد رباط حذاءه المفكوك ... لم يكن سالم ينحنى بسهولة .. كان يلزمه أن يجلس بطريقة ما ، هبط كما اعتاد فى تأن ، وبعد أن اتم مهمته استند بكفيه على الأرض ليقف ، لكن رائحة غربية لفحته ... رائحة ليست الصحراء مصدرها المباشر .. رفع رأسه قليلا ً فاصطدم بصرة بكتله سوداء لا تبعد عنه سوى أمتار قليلة .. كان الذئب يطالعه فى فضول وكأنما يتساءل عما جاء به إلى هناك .. تسمر سالم وأحس أن قدميه تغوصان فى مكانهما .. لم يكن جالسا ً تماماً ، كما تكن ساقاه مفرودتين ؛ كان ظهره محنيا ، ركبتاه نصف مثنيتين ، كفيه على الأرض تغطيهما الرمال ، وحزامه الجلدى ما يزال منحلاً ومتدليا من ملابسه .. كان الحزام يضيف له بجانب يديه وقدميه طرفا خامسا .. " " مجموعة شديدة الإحكام ، بناء دقيق سواء فى اللغة أو تفاصيل القصة ، وصف ليس فيه زيادة أو نقصان .. حس قصص تشكوف المتعاطفة مع المرضى والبسطاء ، وقصص يوسف إدريس التى حملت هذه النزعة الإنسانية الساخرة " .
إلى مَتَى سَأظَلُّ مَشغولًا بإسماعيل؟ وماذا يَقولُ؟ وماذا يَفعَلُ؟ ضاعَ عُمري بِجُوارِكَ يا إسماعيلُ وأنا أَصنَعُكَ أَنتَ، وأُسَجِّلُ في ذاكِرَتي مَواقِفَكَ أَنتَ، وذِكرياتِكَ أَنتَ، وتَدريباتِكَ أنتَ، واهتِماماتِكَ، وما يَسُرُّكَ، وما يُضيرُكَ... بالطَّبعِ لا أَستَطيعُ أَنْ أَحمِلَ رَجُلًا يَزيدُ عن 95 كيلو، لا سِيَّما رَجُلًا مَقتولًا. أَحضَرتُ طَبَقَ الماءِ والصَّابونِ إلى الغُرفَةِ، وأَمسَكتُ بالمِقَصِّ وأَصابِعي تَهتَزُّ داخِلَ فَتْحَتَيْه، ثُمَّ شَقَقتُ الجِلبابَ حَولَ السِّكِّينِ كي لا أُضطَرَّ إلى إخراجِهِ مِن الجَسَدِ حتَّى أَتَّصِلَ بالشُّرطَة. كيفَ لَم أَلْحَظْ يَومًا أَنَّ كُفوفَ يَدَيْه وقَدَمَيْه ضَخمَةٌ إلى هَذِه الدَّرَجَة، وأنَّ رَأسَه كَبيرٌ كَرأسِ ثَورٍ، وشَفَتَيْه مُتَدَلِّيَتَان كَكَلبٍ "بيتبول". غَسَلتُ الجَسَدَ كامِلًا من لُزوجَةِ الدِّماءِ وعَطَّرتُه بالمِسْكِ كما كان يَفعَلُ بَعدَ الحَمَّامِ، أَلبَستُه جِلبابًا نَظيفًا. رائِحَةُ البَخورِ في الغُرفَةِ تَطغَى على رائِحَةِ القاتِلِ، فلا أَستَطيعُ أَنْ أَتَتبَّعَ رائِحَةً بِعَينِها. أَنا أَعرِفُهم جَميعًا، وأُمَيِّزُ رَوائِحَهم، رائِحَةَ عَرَقِ كُلٍّ مِنهُم، ورائِحَةَ عِطرِه المُحَبَّبِ وعِطرِه غَيرِ المُحَبَّبِ، بَلْ ونَوعَ البَخورِ المُفَضَّلِ لَدَيه. والغَريبُ أَنَّ هذا البَخورَ المُشتَعِلَ في الغُرفَةِ هُو المُفَضَّلُ لإسماعيلَ نَفسِه. هَل يَكونُ أَشعَلَهُ قَبلَ أَنْ يَنْقَضَّ عَلَيه القاتِلُ؟
ما يَزيدُ مِن قَسوَةِ زَمَنِ الطُّفولَةِ: عَدَمُ الفَهمِ... كُنتُ أَشعُرُ بالاضطِرابِ والخَوفِ والتَّعاسَةِ دونَ أَمَلٍ في تَفسيرِ مَرَضي؛ فالقائِمُ على تَفسيرِ الغامِضِ مِن الأُمورِ هُو سَبَبُ الغُموض. أَذكُرُ لَياليَ طَويلَةً كُنتُ أَشعُرُ بِخَوفٍ وحُزنٍ يَجتاحُني دونَ سَبَبٍ أَو مُبَرِّرٍ، وكان ذَلِك يَمنَعُني مِن تَناوُلِ الطَّعامِ تَمامًا، ووَقتَها كان يَشعُرُ بالجُنونِ، حَتَّى أَنَّه كانَ يَأخُذُ سَيَّارَةً خاصَّةً وَيذهَبُ بي إلى النِّيلِ، ويُحاوِلُ أَنْ يُلَطِّفَ عَليَّ الأُمورَ لأَتناوَلَ الطَّعامَ. وفي بَعضِ تِلكَ الأَوقاتِ لَم تَكُن أُمِّي لِتَلَحقَ بنا مِن الأَساسِ. وفي أَوقاتِ مَرَضي... كان يَتحَوَّلُ إلى إنسانٍ آخَرَ؛ مَخلوقٍ ضَعيفٍ، تَنتابُهُ نَوباتٌ هِيستيريَّةٌ مِن البُكاءِ، وكان شَيئًا يَدفَعُنى لمُواصَلَةِ التَّظاهُرِ بالمَرَضِ حتَّى بَعدَ تَعافِيَّ مِنْهُ.
"كانت آخِرها حكايَة عن امرأةٍ فاتِنَة مَسحورَة، أجمل من حوريَّات الجَنَّةِ، تَزَوَّجها "علي" لِلَيلَةٍ واحِدَةٍ فَشَفَته بِجَمالِها وَحَلَّت المربوطَ. أمَّا المقَرَّبين مِنه فَقَد ظَنُّوا أنَّ ما حَدَث هو مُبارَكَةٌ من الشَّيخ "إسماعيل الإمبابي" نَفسِه؛ فَهُو شَيخُه القَديمُ، بل ساقَهم ظَنُّهم إلى أَنَّ الشَّيخَ "إسماعيل" ذاتَه تجَسَّد في صورَةِ الشَّيخ "جعفر" ليُساعِدَ تابِعَه "علي" في ضائِقَتِه. أَمَّا ما فَعَلَه الشَّيخ "جعفر" بالحاج "علي" حَقًّا، وما حَدَث حقيقةً في هَذِه الرِّحلَة، كان وسَيَظلُّ سِرًّا لا يَعلَمُه إلَّا الله واثْنَتاهم". "لِتَتابُعِ الأَيَّامِ مَفعولُ السِّحرِ، فِعْلُ الزَّمَنِ فيها هادِئٌ وحَيِيٌّ، لا يُضاهِيه شَيءٌ في مَهارَةِ فِعلِه، نَدَبه اللهُ لِيُقيمَ في البَشَرِ صِفَةَ النِّسيانِ، أَوْجَدَها اللهُ فيهِم واشتَقَّ لَهُم مِنها اسم «الإنسان»، ثُمَّ جَعَلَ الزَّمَنَ عليها رَقيبًا، على ألَّا يَترُكَ البَشَرَ على حالِهِم أبَدًا، يُنسِيهم حالَهُم الَّذي كانَ، فَيُبدِلُهم حالًا غَيرَه، ثُمَّ يُنسيهِم إيَّاه مَرَّةً أُخرى، يُقَلِّبُ قُلوبَهم ويُغَيِّر هَواها".
رغم موت هذا الشاعر فإني أشهد الآن ولادته. ها إن مهاب ناجي يحيا من جديد بشعره، ويعود من خلال هذا الكتاب كي يعيش بيننا. مهاب ناجي، رغم عبوره السريع، ورغم غيابه في حياته عن النشر والإعلام، هو أحد شعراء الحداثة الذين يمتلكون صوتاً شعرياً مميزاً. فلنقدم له كل التقدير الذي لم ينله في حياته، ولتضف اسمه إلى أسماء الشعراء الذين عاصروه. وتلك المدينة التي لا تليق بموته فلتكن الآن مدينة تليق بعودته إلى الحياة.
ها هو الأمر، أدخُلُ في هذه الحالَةِ من التَّفكير والشُّعور، وفجأةً أتلفَّتُ حولي، أين أنا؟ ماذا أفعل هُنا؟ في مكتبٍ مع أُناسٍ لِطافٍ، ولكن يَخلونَ من الحَياة. ما الَّذي أفعَلُه هنا بينما أُريدُ أن أتَصارَعَ مع روسيا والأَقباطِ والمَشاعِرِ والأَحاسيس. وفجأةً أَشعُرُ بما شَعرتُ به في هَذَيْن الصَّباحَيْن، بطريقَةٍ مُختَلِفَة قليلًا، وأقول: الجسد، الروح، القلب! المساكين؛ يُبدّدون ويُحتَضَرون، لحظةً بعد لحظة... لا شيء... لا شيء.
"لِتَحقيقِ هذا الوَعدِ -سيِّداتي، سادَتي- أُريدُ من كُلِّ شَخصٍ فيكُم أن يُغمِضَ عَينَيْه ويُفكِّر في عَيْبٍ واحِدٍ، نُقطة ضَعْفٍ لم يَنجَحْ في التَّخلُّص منها. أرجوكم، فَكِّروا لثَوانٍ وحدِّدوا مُشكِلَةً واحِدَةً تُؤرِّقُ حياتَكُم". تَتَساقَطُ الجُثَثُ في شوارِعِ القاهِرَةِ، بينما ساحِرٌ شابٌّ لا يَستطيعُ النَّومَ، مُترقِّبًا كارِثَةً أكبرَ، وشَريكُه في السَّكَنِ عالِقٌ في مقطوعَةٍ إلكترونيَّةٍ غيرِ مُكتَمِلَة، لكنْ وحدَها "فرح" تُعافِرُ حتَّى تَجِدَ مَهربًا من هذا الخَرابِ، إلى إقليمٍ على هَيئَةِ دَولَة، ودَولَة بلا خَيالٍ جَمعِيٍّ، امرأةٌ تَلِدُ رَبَّتَها، مراعٍ خضراءُ للإِبِل، وملاعِبُ أكبَرُ للجولف، رُعاةُ البُهْمِ يَتطاوَلون في البُنيان، ثلاثُ نَجماتٍ مَجوسيَّة. مدينةٌ ذات قَمرٍ مَشقوقٍ، مُحرَّمٌ فيها الأطفالُ، وناقَةٌ تَخرُجُ من صخرَةٍ وأَلفُ عجيبَةٍ وعجيبَة أخرى. في روايَتِه الثَّالِثَة، يُشَيِّدُ أحمد ناجي من زَواجٍ فاشِلٍ وقِصَّةِ حُبٍّ هَشَّة عالَمًا روائيًّا يَمتَدُّ من القاهرة لسيناء، لنيوم. ويَنمو خَطُّه الزَّمَنيُّ من ثلاثةِ آلاف سَنَةٍ قبل الميلاد إلى المُستقبَلِ القريب، القادِمِ نَحوَنا بعُنفٍ ليَدهَسَنا.
كان آخِر ما رأيناه، هو ورفيقُه، وهُما يَصعَدانِ إلى السَّماءِ، يَضحَكانِ في رِضًى تامٍّ، كأنَّهُما لم يَقتُلَا البَشَرَ كُلَّهم. صَعدَا إلى رَبِّهِما، بَعدَ إتمامِ المَهمَّة على أَكمَلِ وَجهٍ. وكان آخِر ما عَرفناه، أن الواحِدَ مِنَّا لم يَتلُ كتابَه ليَمحوَ الغَيبَ، ويَعرِفَ مَصيرَه، بل قَرَأنا كُلُّنا بلا استِثناءٍ، في صوتٍ واحدٍ، في غباءٍ بشريٍّ واحِدٍ، بتَفكيرٍ ساذَجٍ، يُخبِرُنا بأنَّنا أسيادُ العالَمِ؛ لأنَّنا مَحَونا الغَيبَ، ولم نُدرِكْ حينَها، أنَّها كانت تَلاواتِ مَحْوِ جِنسِنا، بمَشيئَةِ الرَّبِّ، وبِغَضَبٍ من الرَّبِّ، الذي مَنَّ علينا بكُلِّ الفُرَص، ولم نَستَغِلَّها.
لم أَطلُب إلى أولئك الناس الذين طَلَبوا إليَّ أن أَصبِرَ وأُكافِحَ أن يَتَحمَّلوا عَنِّي بعضَ أَعباءِ الحياة، ولَو أَنَّ واجِبَ الصَّداقَةِ وأَوامِرَ الدِّينِ الحَنيفِ تَطلُب ذلك. غير أنِّي رَجَوتُ منهم أن يُساعِدوني بِرَأيِهِم في وَحشَتي، فَيدُلُّوني على نَوعٍ من السِّلاحِ الَّذي يَجِبُ أن أَحمِلَه، ويُعيِّنوا لي العَدُوَّ الَّذي أُقاتِلُه. فإنِّي لَرَجُلٌ لَه مَعِدَةٌ كَمِعِدِهم تَطلُبُ الطَّعامَ في مواعيدَ مُنتَظِمَة، وله جِلدٌ كجُلودِهم لا بُدَّ له من الحِمايَة... لا، لا، سَنَسمَعُ منهم، ولن نُطيعَهم، كُلُّ هذا سُخفٌ، هؤلاء النَّاسُ إنَّما يَهزَؤون منِّي، إنَّ كَنزَ صَبري الغَنيَّ قَد نَضبَ ولم يَبقَ في قَوسِ التَّجَلُّدِ مَنَعٌ، ولا في رُقعَتِه مُرتَقَع. فَلأَتْرُكْ برلين للبرلينيِّين وللأجانِبِ من أَكَلَةِ النَّار والزُّجاجِ. أنا أَطلُبُ من برلين المستحيلَ، ولَكِنْ أَينَ المفَرُّ؟ إلى آكِلي لُحومِ البَشَرِ؟ إلى نِيام نِيام؟ إلى مَملَكَةِ الباب؟ أنا لا أَطلُبُ إلَّا عَمَلًا. أَحصُلُ من وَرائِه على سَقفٍ فوقَ رَأسي وخُبْزٍ وكِتابٍ. أَصاحِبُ مَطامِعَ أنا؟! لا... فَلَم يَبْقَ أمامي إلَّا الرَّحيلُ أَو انتِظارُ وُقوعِ مُعجِزَة.
عندما قُتِلَ بُطرُس غالي بِيَدِ إبراهيم الورداني عام 1910 أنشَأَت الحُكومَةُ ما أَسمَته "المكتبَ السِّياسيَّ"، وعَيَّنَت ﭼورچ بِك فلبيدس رئيسًا له، وَضَعَت تَحتَ تَصرُّفِه أَموالًا طائِلَةً يَصرِفُها بِلا رَقابَةٍ، ولا مُراجَعَةٍ، لَكِنَّ المكتبَ ظَلَّ يَعمَلُ سَنَتَيْن مُتَوالِيَتَيْن دونَ أَنْ يَكونَ لَهُ أَثَرٌ فِعليٌّ أو نَتيجَةٌ ظاهِرَةٌ؛ فَدَاخَلَ فلبيدس شَيءٌ من الخَوفِ في تَفكيرِ الحُكومَةِ في إِلغائِهِ؛ فَكانَ أَنْ سَوَّلَت لَه نَفسُه أَن يَخلقَ شَيئًا جَسيمًا تَهتَزُّ لَهُ مِصرُ، ولَم يَلْقَ أمامَه بِطَبيعَةِ الحَالِ غَيرَ الحِزبِ الوَطنيِّ ورِجالِه؛ لاعْتِقادِه أَنَّ في مَقدورِه استِغلالَ ما هو مَعروفٌ عن هذا الحِزبِ القَويِّ النُّفوذ -إذ ذاكَ- من كراهَةِ الاحتلالِ البريطانيِّ، ومُناهَضَتِه بِكافَّةِ الطُّرُقِ السِّلميَّة؛ فَقرَّرَ أن يُلقي في رَوْعِ أُولي الأَمرِ أَنَّ الحِزبَ قد دَبَّرَ مُؤامَرَةً لاغتيالِ أَكبَرِ الرِّجالِ في مِصرَ، وهَكذا تَتَوطَّدُ دَعائِمُ سُلطَةِ فلبيدس، ويَتَّسِعُ سُلطانُ نُفوذِه، وكان عَلى إثْرِ تِلكَ المؤامَرَةِ المزعومَةِ أَنْ أُلقِي بالعَديدِ في السُّجونِ لمدَّةِ 12 عامًا، كان أَحَدُهم هو محمود طاهر العربي.
قد تكونُ تِلكَ القصصُ -بِشاعِرَيَّةِ اللُّغَةِ الخام- هي واحِدَةٌ من أَعذَبِ المرثِيَّاتِ لِحقبَةٍ تاريخيَّةٍ ثَقافيَّةٍ امتدَّت مُنذُ السَّبعينات وحَتَّى لَحظَةِ اندِلاعِ الثَّورَةِ في مِصر، وما كانَت باهِرَةً، لَولا أَنَّ كاتِبَها أَمْعَنَ في إضْفاءِ التَّعاطُفِ والحَنانِ والحُبِّ العَميقِ والشِّعريَّةِ المكتومَةِ في النَّثرِ البَسيطِ والتِّلقائِيِّ والمقتَضَب، كأنَّ إبراهيم داود يُودِّعُ قاهِرَةً آفِلَةً قبلَ استقبالِ قاهِرَةٍ جَديدَةٍ. يُوَدِّعُ رُعبًا كامِلًا، ناظِرًا بِحَسرَةٍ إلى زَمَنٍ جَديدٍ غَريبٍ ومَجهول".
زَيدٌ و دَليلَة... يَلتَقِيان في صُدفَةٍ تَحمِلُ كُلَّ مَعاني الغَرابَةِ والدَّهشَةِ في القاهِرَة. انفجاراتٌ إرهابِيَّةٌ تَعصِفُ بالقارَّةِ العَجوزِ! لَكَ أَنْ تَتخيَّلَ كَيفَ يَستَطيعُ الإِنسانُ أَنْ يَتَلقَّى تَعليمَه الجامِعيَّ في "أبو غريب"؟ تِلكَ الَّتي مَلَأت أخبارُها الدُّنيا وشَغَلَت النَّاسَ عَقِبَ اجتياحِ الأمريكانِ بَغدادَ! ولكنْ، هل تَدورُ أَحداثُ الرُّوايَةِ ما بينَ مِصرَ، العراقِ وأوروبَّا فَقَط؟! ومَن هو ثَورُ قُرَيش بالأساس؟ هل هو سَليلُ بُرجِ الثَّور؟ وماذا يَقصِدُ الكاتِبُ بِقُرَيش؟ ويبقَى السُّؤالُ الأَهَمُّ: متى التقى زَيدٌ دَليلَةَ في حَقيقَةِ الأَمر؟
وَقَفتُ وَراءَ زُجاجِ نافِذَتي أَرْقُبُ الطَّريقَ. الشَّارِعُ خالٍ مُوحِشٌ، ونَوافِذُ البُيوتِ مُغلَقَةٌ مَيِّتَةٌ، ولا حياةَ، ولا حَرَكَة. الزَّمَنُ تَوَقَّفَ، والدَّقيقَةُ أَصبَحَت ساعاتٍ مُمِلَّةً. وَقتي رَخيصٌ، لا أَعرِفُ ماذا أَفعَلُ بِه. أنا لا شَيءَ، ذَهَبتُ وجِئتُ في الحُجرَةِ، ونَظَرتُ مِنَ النَّافِذَة، وأَمسَكتُ بكِتابٍ عِدَّة مَرَّاتٍ، وحاوَلَتُ في كُلِّ مَرَّةٍ الاستِمرارَ في القِراءَةِ، ولَكِنِّي فَشلتُ، فأَقفَلتُ الكِتابَ، وانتَصَرَ الفَشَلُ كانتِصارِهِ الدَّائِمِ عَلَيَّ". "أنا في الثَّامِنَةَ عَشرَةَ، سِنِّ الشَّبابِ كما يَقولون، ولَكنِّي أَشعُرُ أنِّي هَرِمتُ فَجأةً وأَصبَحتُ كَهلَةً. أوراقُ الشَّجَرِ تَتَساقَطُ على أَرضِ الحَديقَةِ، وتَتَجمَّعُ في زَوايا الشَّارِعِ، ويَتَساقَطُ معها فَيضُ مِنَ الذِّكرياتِ الحَزينَةِ في خاطِري، ويَدفَعُ بإحساسٍ حَزينٍ ساحِقٍ إلى قَلبي فَيَغمُرُه بِظَلامِه، ويَجتاحُ نَفسي من جَديدٍ شُعورٌ حادٌّ بالضَّياعِ".
"لا أُریدُ لِحُبِّك أَنْ یُضیفَ إلى حَیاتي أيَّ مَعنًى. لا أُریدُ مَعانِيَ، لا أَرغَبُ في المزیدِ، المعاني أَسلِحَةٌ، وأنا لا أَحَدَ، لأُواجِهَ أيَّ أحَدٍ. المعاني هُتافٌ، وصَوتي حادٌّ ومَبحوحٌ. المعاني نَواقیسُ، وأَنا أَكرَهُ أُذُنَيَّ. المعاني وُقوفٌ، وأنا راغِبٌ فَقَط في التَّمَدُّدِ طُوالَ الیَومِ على الأَریكَةِ الَّتي اشتَرَیناها مَعًا لِغُرفَةِ المعیشَةِ، رَغمَ رَأيِ أَهْلِك وأهلي. أَسمَعُ ثَرثَرَتَكِ مع الصَّدیقاتِ في الهاتِفِ، وخَریرَ هِرِّكِ الَّذي یَحتَرِمُني لِسَبَبٍ أُحاوِلُ اكتِشافَه، وحَفیفَ ثِیابِكِ في الرَّدهَةِ وصَدَى الأَفراحِ والمآتِمِ البَعیدَةِ في المنطَقَةِ. المعاني ضُیوفٌ، وأنا لَديَّ خُطَطٌ أُخرَى".
عَلى عَكسِ الرَّاسِخِ تاريخيًّا لَم تَكُن تايتانيك تَغرَقُ بِسَببِ اصطدامِها بِجَبَلِ الجَليد. بَل كُنَّا نُقصَفُ بِقَذائِفَ آتِيَةٍ مِن سُفُنٍ بَعيدَةٍ. وبِما أنَّها لَيسَت المرَّةَ الأُولى الَّتي أدخُلُ فيها هَذا الحُلمَ، مَشَيتُ في وِجهَتي دونَ التِفاتٍ حتَّى لا أَتأخَّرَ على "كيت وينسلت"، ولَكِنِّي رَأيتُ "هَدير"، فَوقَ، عِندَ صاري السَّفينَةِ مُرتَدِيَةً ثَوبَ زِفافٍ، ودونَ مُبَرِّرٍ واضِحٍ قَفَزَ إلى مُخِّي أنَّ هَذه لَيلَةُ فَرَحِنا وأَنَّ الشَّماريخَ الَّتي رَأيتُ النَّاسَ يُطلِقُونها في الهواءِ لَيسَت للاستِغاثَةِ، بَل للاحتِفالِ. فَرِحَ قَلبي، وقُلتُ أَن أَجري لها قَبلَ وُصولِ المياهِ إلى رُكبَتَيَّ، ولَكِنَّني لَم أَجِدْ سلالِمَ لأَصعَدَ، إِلَيها وانتابَني شَكٌّ من اللَّونِ الأَسوَدِ الَّذي كان يَرتَديه كُلُّ حُضورِ الحَفلِ الغارِق، ومن الفُستانِ الأَحمَرِ الَّذي اكتشَفتُ أني أرتَديه. وعَلى الرَّغمِ مِن أَنَّ الكُلَّ كان يُهَنِّئُني وهُم يَعبُرونني في اتِّجاهِ الصَّاري، فَإنَّ أحدًا لَم يُوافِقْ على حَمْلي؛ لِمَا كانت عَلَيهِ رائِحَتي الكَريهَة، اكتَشَفتُها بَعدَما رَأيتُ "هَدير" على الصَّاري تَبدَأُ الحَفلَ وحدَها وِهي تُغنِّي من ميكروفون: "ارفَع كُلّ رايات النَّصر... اِحنا شباب بِنحَرَّر مَصر"...
عين الغربال لم تكن حاراتنا ضيقة إلى هذا الحد ، لأمشى وسطها بالكاد وكفاى تلامسان حائطيها . الضباب الصباحى يلفاها بلونه الرمادى ونسمه هواء باردة ترعش البدن ورائحة شواء . أرض رخوة وحوائط صماء بغير أبواب أو نوافذ . دخان شيفيف ثلجى يصاعد من بين قدمى كلما خطوت . صمت موحش وغرفة غرائبية واسعة تتراقص جدرانها المرسومة بألوان وخطوط وعلامات غير مفهومة ، وشخوص عارية صدورها ونهود مدلاة كالقناديل وقطعان نمل أسود لعين مقهورة وممزقة أوصالها تحت سنابك الخيل والأقدام والعجلات المسننة ، ومنزلق ضيق أغوص فيه سريعاً ، يفضى إلى هوة سحيقة وفضاء ليهوى جسدى إلى المجهول . أقفز من منامتى مذعوراً مع صوت أذان الفجر والمفاتيح بالباب الصاج ، ومواء القطط يملأ المكان!
المشنَقَةُ الرابِعَةُ فوقَ البابِ مُباشَرَةً، وهي الأُولى من حَيثُ الصُّنعِ، أَعدَدتُها من مفرَشِ سَريرٍ أَشَدَّ قَذارَةً من المفرَشِ الحالي، رُبَّما يكون الدَّافِعُ الأَوَّلُ للمَشانِق كُلِّها هو مفرَشُ السَّريرِ، وليسَ مَديحَة. لَيسَ الآنَ وَقتُ البَحثِ عن أسبابِ المشانِقِ؛ فالمشانِقُ لا تَحتاجُ لأَسبابٍ، قد تَظهَرُ في حياةِ أَيِّ أَحدٍ بدون أيِّ سَببٍ، رُبَّما تأتي في صورَةِ جُنونٍ أو اضطرابٍ خَفيفٍ، أو حتَّى مُجرَّد قَلَقٍ. أنا لا أَهربُ من المواجَهَة، ولكِنْ -بِصدقٍ- أُريدُ ألَّا أنشَغِلَ كثيرًا بأسبابِ المشانِقِ... الأَجدَى هو أَنْ أُجرِّبَها، أَنْ أَختَبِرَ قُدرَتَها على قَتلي...
الأَمرُ ليسَ مُجرَّدَ استعادَةِ كَرامَتِنا ومكانَتِنا وسطَ شُعوبِ العالَمِ، ولَيسَ مُجرَّدَ ثَورَةٍ تَتعَرَّضُ فيها أَرواحُنا للهَلاكِ، ولَيسَ مُجرَّدَ الانتِقامِ مِمَّن أفْسَدوا حياتَنا على مَدَى ثلاثين عامًا... الأَمرُ ليس ذلك فحَسبُ. هذه الثَّورَةُ هي تَحَدٍّ لوُجودِنا كَأُمَّةٍ، لِقُدرَتِنا على أَنْ نَفعَلَ شَيئًا، هَذِه الثَّورَةُ هي الاختِبارُ الأَخيرُ لقُدرَتِنا على أن نَحلُمَ بِغَدٍ أَفضَلَ. وأَنْ نُواصِلَ الحَياةَ ونَحنُ مُقتَنِعون بِقُدرَتِنا على تَحويلِ الحُلمِ إلى حَقيقَةٍ. أنْ نَبني وَطَنًا يَكونُ لنا وليسَ علينا. إنْ نَجَحَت هَذِه الثَّورَةُ نَجَحَت حياتُنا معَها، وعَرَفنا أَنَّ كُلَّ شَيء مُمكِنٌ مع الأَمَلِ والعَمَلِ والصَّبر، وإِنْ خَسِرناها عَلِمنا أنَّه لا فائِدَةَ، وأنَّ هذا الوَطَنَ لَيس وَطَنَنا، بَل لَيسَ وَطنًا..
ثُمَّ خَفَضتُ بَصَري أَطمَئِنُّ عَلَى يوسُفَ، فَفُوجِئتُ بِهِ يَتَشَمَّمُ يَدَهُ المُتَعَرِّقَةَ الَّتي التَصَقَ بِها فُتاتُ الكَعكَةِ، بَينَما سِلاحُهُ مُلَقًى بَينَ قَدمَيْه، صَوَّبتُ سِلاحي مِن جَديدٍ، وَرُحتُ أُطلِقُ الرَّصاصَ راجِيًا مِنهُ أَنْ يَفعَلَ مِثلي، فَأَمسَكَ سِلاحَهُ، وَمَدَّ ذِراعَهُ عَنْ آخِرِها، وحَرَّكَها يَمينًا وَيَسارًا دونَ أَنْ يَقَعَ مِنهُ فارِغٌ واحِدٌ: "أَنا لَستُ عِمادًا يا رَبيع". صِحتُ بِهِ مَمرورًا لا أَجِدُ الوَقتَ لِلجَدَلِ: "كُنْ عِمادًا اليَومَ فَقَط، مِن أَجلي"...
تَحَدَّى الزَّمَنَ في أَنْ يُحكِمَ قَبضَتَه عَلَى شَرِكَتِه وعَلَى العالَمِ لِمُدَّةِ خَمسَةٍ وأَربعينَ عامًا، خَرَقَ كُلَّ نواميسِ التَّلمودِ بِتَسليمِ شَرِكَتِه إِلَى ابْنَتِهِ المرأَة. بِداخِلِ ناثنيال ميزانٌ يَزِنُ نَظرَةَ الجُمهورِ والسِّياسِيِّين إِلَى قادَةِ الأَعمالِ ورُوَّادِ الصِّناعَةِ. إِنَّ واقِعَ الحالِ داخِلَ المؤُسَّسَةِ يَصنَعُ مِن الرُّؤَساءِ أَنصافَ آلِهَةٍ أَو أَبطالًا يونانِيِّين مِن العَصرِ القَديمِ، تَتَكاثَرُ حَولَهُم جُموعُ المُشَجِّعين المُتَهافِتِين، أَو تَتَراقَصُ في ظُلُماتِ رَدهَاتِ مَكاتِبِهم حَبائِلُ المَكائِدِ؛ للإِيقاعِ بِنَفسِ هَؤلاءِ أَنصافِ الآلِهَةِ أَو الأَبطالِ لِصالِحِ آخَرينَ.
لا شَيءَ مِمَّا يَحفَظانِهِ في الذَّاكِرَةِ مَوجودٌ في مَكانِهِ إِلَّا السَّيِّدَةَ المُتَسَوِّلَةَ الَّتي يَعرِفانِها جَيِّدًا، حينَ اقْتَرَبا لَمَحاها هُناكَ في مَكانِها، أَسفَلَ اللَّافِتَةِ البَنَفسَجِيَّةِ لا تَزالُ، لَكِنَّ أَشياءَها الَّتي كانَت ثابِتَةً تَغَيَّرَت وتَحَوَّرَت قَليلًا، صارَ أَمامَها نَوْطٌ ذَهَبِيٌّ مُعَلَّقٌ في شَريطٍ داكِنِ الزُّرقَةِ، وبِجانِبِهِ أَكياسُ المناديلِ الوَرَقِيَّةِ ومَوقِدُ الجازِ القَديمُ. "في رِوايَةِ الطَّابور عالَمٌ يُشبِهُ الواقِعَ، وحَقائِقُ لَيسَت هِيَ الحَقائِقَ. يَتَحَوَّلُ تاريخُ السَّنواتِ الثَّلاثِ الأَخيرَةِ إلى أَسئِلَةٍ، ومَشاكِلَ مُعَذِّبَةٍ لِلرُّوحِ والعَقلِ، كُلُّ النَّاسِ في الطَّابورِ «الثورة المَيدان، الأَحداثُ كَلِماتٌ مَوجودَةٌ، ولَكِنَّها لا تُقالُ» البَوَّابَةُ في نهايَةِ الطَّابورِ. السُّلطَةُ الغاشِمَةُ القاهِرَةُ: لا اسمَ لَها ولا تاريخ". روايَةُ الطَّابورِ لا تُجيبُ، وَلِكَّنها تُجيدُ صِياغَةَ الأَسئِلَة".
يا شاهدَ القبرِ انتظرْني وردةً سأعودُ وحْدي خاليًا من كلِّ أحزانِ الوداعْ ستكونُ ذاكرتي الصغيرةُ صفحةً دوَّنتُ فيها ما تيسَّرَ من وصايا الأصدقاءِ إلى ذويهِمْ في العدمْ أو بعضَ صرخْاتِ الأراملِ واليتامى المخلصينَ لحزنِهمْ سيكونُ فيها بعضُ أرقامِ الهواتفِ ربَّما أحتاجُ شمعًا كي أُواجهَ عَتْمَتي.
كان الواقع كما تعكسه الأخبار -وليست المقالات- بَشِعًا، ومُقزِّزًا، ومُرعِبًا: القتل، والجنون، والرعب، والخوف، والآلام التي لا تُطاق، وكل شيء يُداس بالنعال: الأخلاق، والعواطف، والقيم، والأطفال، ونحن نتكلَّم، وغيرنا يتكلَّم... ولهذا قرَّرتُ أن أكتب روايةً عاريةً: مجرَّد وثائق تلطم وحدها كُلَّ مَن يقرأها، وكنت أيضًا أحاول أن أخرج نفسي -كقارئ، وكمشروع قصَّاصٍ وروائي- من أَسْرِ "الحدوتة" التقليدية التي عرفها أدبنا العربيُّ. والتي يكتبونها لتسلية "النسوان" في المنازل، والأفندية في المكاتب. كنت قد كرهتُ الرَّجلَ المستسلم لمصيره كالشَّاةِ، والمرأةَ المستنيمةَ للعبودية؛ ما يجعلها تستحقُّ أن تظلَّ في وضعها المهين. وممَّا لا شكَّ فيه أن كل هذه الأفكار قد وُلِدَت في ظِلِّ مناخ من الألم النفسي والغضب، كانا يحيقان -آنذاك- بي.
"كان توبيخها بمثابة احتمالات لا نهائية كفيلة بتجسيد قلق لا يمكن تفويته، فحتى ما ادعى فهمه في سمر لـم يعـد يفهمه، وربما لم يكن يفهمه، وأدرك ذلك الآن فقط، بما يجعلها علاقة قائمة على الفهم الخاطئ صححتها رائحة النشادر المقلية. قرّر أن يختار. لملم أغراضه ليغادر. في الطريق تعثّر بحجر أخره، ثم كتب قصيدة؛ فمات. "
It's 1971. Egypt is still reeling from the sudden death of its “benevolent” tyrant Nasser and teeters on the precipice of Sadat’s era. The narrator is an engineering graduate student and a TA, moonlighting in an office that operates more as a Marxist political and cultural salon, conveniently located between a famous cabaret and the Cairo Opera House. A frustrated dreamer of bygone eras when poetry and freedoms were sacred, he sees the alarming changes happening in front of his eyes altering his reality for good.
الرحمة حقًّا أن تنقطع الكهرباء عن هذه المدينة، تغيب الكاميرات والمراقبة، فأجري مع الجموع نهشِّم الزجاج، ونسرق محلات الجادَّة الخامسة. نؤمِّم منازلهم، ونسكنها. نلتهم ما في مطابخهم، ونسكر بلا نهاية من النبيذ المُخزَّن في أقبيتهم. نحيا كأغنياء، كأمريكان، كنجومٍ، كآلِهة مانهاتن. كل المشكلات حَلُّها ليس في السماء، بل في محطَّة الكهرباء التي تُغذِّي هذه المدينة. الرحمة الحقيقية اسمها «بلاك أوت». مهاجر جربوع يزور نيويورك بحثًا عن فرصة عمل، فينتهي به الأمر على مفترق طُرُق، بين الانضمام لجماعة دينية سرية، أو زوجة دبلوماسي تدعوه لأكل الحمام المحشي. رواية عن مسرنمين يحلمون بالخروج من مصر.
تَحرَّكتُ بهدوءٍ من مكاني إلى تحت الشجرة الأولى. ومن خلال النافذة ألقيتُ نظرةً على ما يحدث في الداخل. بدا لي أن الكلب المصلوب يتململ ويُحاولُ أن يفكَّ أطرافه المشدودة إلى الطاولة؛ فعاوَدَتني الرَّجفةُ السابقة بينما كان رضا أبو شنب يَحقِنُه بمزيدٍ من المخدِّر ليهمد. سرحتُ قليلًا في الكلب المصلوب، ليس في مصيره المحتوم بالطبع، لكن في الطريق التي أوصلته إلى هنا، وفي الصُّدفة العجيبة التي جعلتني ألتقي به وجهًا لوجه في غرفة عمليات واحدة. أنا الذي عِشتُ عمري كله في رُعبٍ دائم من كلاب الشوارع، أقف في غرفة واحدة مع كلب، صحيح أنه تحت تأثير المُخدِّر، لكنه في الأخير كلب، كلب أسود مُخيف، ليس لأنه أسود؛ لكن لأن كلَّ كلبٍ مُخيفٌ. ارتجفتُ من جديد، وخُيِّل لي أن الطقس يزداد برودة"""". ومنذ التقى أسلافنا بالكلب لأول مرة، قبل ١٤ ألف سنة قبل الميلاد، لم يتوقَّف الكلب عن وَلائِه ومَحَبَّتِه غير المشروطة للإنسان.
هل كان هذا المُغنِّي الصعيدي العفي الذي لا تخفَى رجولته، بل خشونته، يطوي هيكل جسمه وثيق الأيْدي على دلالٍ نسويٍّ مُضمَر ومنصهر في بوتقة ذكورته المتأجِّجة؟ عندما تغني بجمال المحبوبة، سواء كانت امرأة أو وهمًا، كان عوده يهتزُّ بنشوة المطارد القنَّاص الصائد، وكأنما كان يهتزُّ أيضًا بنشوة الطريدة التي وقعت في الشِّباك عندما اخترقها السهم النافذ إلى الصميم
أحسُّ شيئًا كابوسيًّا يهدف إلى تحويل الناس إلى أجسام بلا روح، مثل الدجاج الآلي في مزارع الدواجن والجمعيَّات الاستهلاكيَّة، مجاميع هائلة تخرج للحياة في المحاضن المبرمجة تؤدِّي وظيفة مرسومة من الأوَّل للآخر، ينتهي البرنامج فينتهون، لا صراع، لا اتصال. لا حوار، لا شيء إلا الكابوس.
درَّست لي فاليريا كل سيمفونيات سيرجي سيرجيفيتش بروكفيف، حكت لي أن الموهوب الروسي الذي عزف في عواصم العالم من لندن إلى برلين إلى باريس، واختار العودة النهائية ليعيش بموسكو في بناية ليست بعيدة عن الكرملين عام 1936 ليشهد بأعينه من دون أن يستطيع أن ينبس ببنت شفة ما فعله ستالين برفاقه من اللجنة المركزية وقادة الجيش والدولة ثم ببقية مواطنيه السوفييت، ألَّف بروكوفييف رائعته الحرب والسلام لتحكي رواية ليو تولستوي في غضون الأربعينيات، استنهاضًا للأمة الروسية في مواجهة النازية. كان بروكوفييف نجم الموسيقى الكلاسيكية الحي في الاتحاد السوفيتي قبل الحرب وبعدها تم توبيخه هو وموسيقيين آخرين بتهمة "الشكلية" ومعه الموسيقيان آرام خاشتوريان وديمتري شوستكافيتش، وأن موسيقاهم لم تعُد تعني أي شيء! وخالية من أي معانٍ "بنَّاءة" أو "اشتراكية" وتم حظر ثمانية من أعماله تمامًا داخل الاتحاد السوفيتي. تضحك فاليريا عندما كانت تحكي لتعرفني بأن نجمها بروكفيف مات في نفس يوم وفاة ستالين سنة 1953، وتقول أنه عندما صعد إلى السماء لا بد أن الملائكة أرغمت السفاح على الاستماع لموسيقى بروكفييف أيامًا طويلة حتى يتم الانتهاء من استقبال بروكفييف الاستقبال الملائكي الذي يليق به، بل إن أحد الملائكة قرر أن يعيد إذاعة الثمانية أعمال الممنوعة من الإذاعة والعرض بتوالٍ متواصل لعقاب ستالين.
"جمعت كل الأوراق الممكنة لكن عاد اضطراب قلبي بعد أن غابت الشمس فاستلقيت على الأرض حتى شعرت ببرودة الشتاء تدفعني إلى الحركة مرة أخرى، أعرف أين عليَّ الذهاب لكني لم أجمع ورقًا كافيًا للكتابة بعد. في الممر الخلفي المُضاء على استحياء بضوء القمر أجد أوراقًا بيضاء مكدسة، ينقل العامل بعضًا منها ويترك الكثير خلفه، سيعود ليدخلها المحل بالتأكيد، لكني أركض وأختطف رزمتين كبيرتين فتتسارع دقات قلبي ولا تهدأ حتى بابتعادي عنه. يحجب الطيف ضوء القمر ويهنئني على ما جمعت ثم يسألني-من دون أن يتكلم- لماذا لا أكتب؟ لا أرد". مجموعة قصصية من 16 قصة قصيرة تعالج الخوف، والحب، والانكسار، والطموح، والرَّغبات: السَّاذجة منها؛ والطموحة. في النهاية، لا يتوقَّف بطل الحكايات عن المحاولة، حتى لو ابتُليَ بالفشل في كل مرة. "
"قال وددتُ لو أهرب من هذا كلِّه. لكنه تعلَّم كيف يهرب من الكلمات إلى الكلمات، أن يُكفِّن الوردة الحيَّة في حروفٍ سوداء بلا رائحة ولا ملمس، وأن يستغني عن شجاعة الرحلة بلذَّة تخيُّلها. حتى جاء يومٌ ووقَعَت المعجزة، حقًّا وصدقًا، وبلا لُغة؛ إذ نبتت الأوراق الخُضر في أطرافه الأربعة، وشقَّت قدماه سطح الأرض وراحت تمتدُّ عميقًا، وارتفعَ رأسه نحو النور والهواء، وبدأ يرقص مع النسيم على غناء الطير ودغدغة النحل، يدور حول نفسه بذراعٍ مرفوعة تشيرُ لقلعة أبيه في السماء، وأخرى مُدلَّاة تشيرُ لبطن أمه على الأرض، تلك التي لا يحلم بها كثيرًا، لكنه سيرجع إليها مثل كل أبنائها في نهاية الرِحلة. وبين قلعة أبيه وبطن أمه يحاول أن ينسى نفسَه ليعثر على كل شيء. وإلى أن يحدث هذا، إلى أن يصير وردةً لا تدري ما هي، سيظل مبتسمًا لجُرحه المفتوح، عابرًا في ثقة السُّكارى من صفحةٍ إلى أخرى. "
"نهضت من فراشي، وأحضرت ورقة وأقلامًا لأرسم صورة لذلك المتطفِّل. أمسكت القلم الأسود، وبدأت أرسم وجهه ذا الملامح المرعبة؛ ابتسامة شامتة عريضة، وعينين واسعتين لامعتين تخترقني نظراتهما، ثم رسَمتُ جسده الأسود القاتم، كان جسده مُصمَتًا وكأنما كان محضَ خيال. رسمت كل ما تذكَّرتُه من ذاك القابع في مُخيِّلَتي، ولم أنتهِ سوى حين صبغتُ اللوحة كاملة باللون الأسود؛ وكأنما اتَّسع جسد ذلك الشخص ليستبدَّ باللوحة كاملة تمامًا، كما استبدَّ بعقلي؛ فغَدَوتُ أبصر الحياة من خلاله. طويت اللوحة ومزَّقتها إربًا وأودعتها سلَّة المهملات؛ إذ شعرت بغضب شديد تجاه الكائن الذي رسمته. لقد مزَّقتُ صورته على الورقة، إلَّا أنه لا يزال حيًّا في مُخيِّلتي."
فتحتُ حسابي على الفيسبوك أحاول أن أكتب عن مشاهداتي ببيروت، ووجدت نفسي أكتب لزوجتي. لم أكن من النوع الذي يحبُّ استعراض حياته الخاصة على الفيسبوك، فرغم أن زوجتي كانت أجمل النساء في عيني، لكني أبدًا لم أسعَ لاستعراض قصة عشقنا أمام الملأ؛ فقد تعلَّمتُ من شبكات التواصل الاجتماعية أن أغلب مَن يستعرضون سعادتهم هم مِن أتعس الخَلْق؛ لأننا حين نعيش السعادة الحقيقية ونتذوَّقها فنحن نحتفظ بجماليتها لأنفسنا فقط، أمَّا أولئك الذين يستعرضون حياتهم الخاصة أمام الملأ فلديهم شكٌّ عميق بخصوص سعادتهم؛ لأنهم يعتقدون أن نقرات الإعجاب إقرار بحقيقية سعادتهم. إنه فقط عالم الصور، ولا يمكن للسعادة أبدًا أن تصبح افتراضية. صفحة زوجتي وصورتها. هذا السلام الداخلي وهذا الجمال الهادئ. إنها بقوة ألف حصان، وهي في الوقت نفسه مفرطة الأنوثة. "أحبُّكِ"، انفلَتَت مني. ثم "أحبُّكِ" رَقَنتُها هذه المرة. وعند "أحبُّكِ" الثالثة انسابت مني الكلمات كأنَّ أحدًا يُمليها عليَّ. إننا حينما نكتب بصوت القلب فإن الكلمات تنساب منَّا كشلَّال هادئ يشقُّ طريقه بسلاسة إلى قلوب القُرَّاء.
أنتَ لست قسِّيسًا كي أعترف لك بالخطايا، أنا فقط قرَّرتُ أن أكون صادقًا وصريحًا لأبعد الحدود في هذه المذكِّرات، للدرجة التي أغضَبَت زوجتي إيزابيلا، لكنها في النهاية دعَّمَتني. لقد حقَّقتُ ما لم يُحقِّقه أحدٌ مثلي من قبل، وقرَّرتُ أن أمنح قارئ هذا الكتاب مادَّةً صادقة؛ لعلَّني أُسهِم في نقل تجربتي كاملة لمن يريد أن يتعلَّم شيئًا عن الحياة، وحقيقتها المستترة، فالإنسان يكره الحقيقة لأنها دائمًا مُرَّة، أمَّا الأكاذيب فيستلذُّ طعمها الجميع. وبعد أن أصبحت أوَّلَ مصري مسلم من أصول إفريقية يدخل الكونجرس، لم يستبعد كثيرٌ من المحللين السياسيين وقتها أن يسكن البيتَ الأبيضَ رئيسٌ أسود بعد بضعة عقود.
يمكننا أن نلخص الحياة البشرية بين قوسين، القوس الأول هو الهجرة والقوس الثاني هو الانتظار، فإن كان الإنسان يسير في اتجاه أحلامه فإن تجربته تسير في اتجاه الأماكن والأزمنة التي يمر عليها، في الجزء الأول من خماسية الهجرة والذي يأخذ عنوانه من تجربة جيله المتجسدة في المهاجر سين الذي يروي حكايته المتسمة بالهجرة في كل ركن من أركانها نشهد حياة سخية في مدارات متلاقية من الفن والحرب والحب والسينما والهوية والانفتاح تعبر كلها عن تجربة شخصية تواقة ترغب دومًا في اكتشاف مناط وجودها وسر تفردها.
كان الضوء القادم من الشباك يرمي بظلي على الحائط، ولكنه لم يكن ظلًا، كنت أنا، وكأني أنظر في المرآة، ولم تكن المرآة معكوسة، كنت إذا حركت يدي اليمنى حرك انعكاسي يده اليمنى أيضًا والتي تقع في مواجهة يدي اليسرى، ابتسمت لي، أنا وأنا ابتسمنا في ذات اللحظة بالطبع، مددت يدي وصافحتني وساعدتني على الوقوف بجواري، وأمضينا أياما معًا، تحدثنا كثيرًا دون أن يحرك أحدنا شفتيه، يمكن للأفكار أن تتكامل، ولكن الحركات ستتقاطع، ثم استيقظت ذات يوم فلم أجدني.
دون أن يُفكِّر مرّتين أعادَ ضيفنا مُسدسه لجِرابه السوتياني وأمرني بالنزول معه هو وأخيه. عندئذٍ أفلتُّ أعصابي وبكيتُ بتدفُّقٍ كطفلٍ حبسَ بوله فترة وهبّدتُ كموتورٍ حقيقيٍّ كأني خرجتُ من رحِم أُمّي لتوّي، كنتُ بلا حول ولا قوة وخُيِّل لي أنهم لو اقتادوني تحت تهديدِ السلاح لن أتورّع عن الصراخِ باسمِ روز، أُمّي التي لم تَلِدني من رحِمها بل من بيتها، كأن الحوت نبيٌّ كذّاب جاء ليستردّ ابنه الضال من حُضنِ الغواني، فقط ليواصل تعذيبه.
كان مخايل قد سهر ليالي لإعداد خطة لشهور يقضيها في الفيوم مع مينا، ماذا سيلبسان وكيف سيأكلان ويؤمّنان الاتصال بالإنترنت فقط مشاركته هو نفسه الخطة لم يجرؤ عليها، أقول له تعال معايا لحد آخر الصيف وأزود لك مرتبك؟ طيب فرضًا قال لأ؟ أقول له لو ما جيتش مافيش شغل عندي؟ طيب فرضًا قال أه؟ كل الطرق كانت تنتهي به للتفكير في خطفه.
أراهن أنه لم يخطط للأمر مثلما خططت. لم يعكف شهرًا أمام بوابة المزلقان يملأ بيانات الرواد، أتحداه أن يباريني. كل بما لديه. فليشهر سلاحه، وأشهر سلاحي، أنا أتحدى الدكتور "ثابت" أن يبرز حجم مأساته، وأبرز أنا حجم مأساتي، ونقيسهما على مازورة "سيزيف" الأزلية. لا فرصة لديه للفوز أمامي أراهن أنه لم يكن يسعى للأمر من الأساس. أهكذا تسير الأمور ؟ أتسعى الأشياء لمن لا يسعى لها ؟ حتى الموت! لا يجب أن تسير الأمور بهذا الشكل، والا سأكون أنا آخر من يسعى إليه الموت. .... الدكتور "ثابت". من يظن نفسه ؟
"أطــرق الغــراب للحظــة، ثــم نظــر إليهــا.. ســمعت في عقلهــا صوتـه كما سـمعته سابقًا.. "لا َتمُرِّي مرَّ الكـرام على مـا يجـب الإنصــات إليــه".. ثــم طــار. بُهِتت للحظــة. مــاذا يعنــي بهــذا؟". "حجرٌ في زغرب" رواية تطير بنا فوق الخطوط الفاصلة بين العوالم.. الحياة والموت، الحقيقة والحلم، الماضي والمستقبل، الصواب والخطأ، الثقة والسذاجة، الكبر والكبرياء، الدين والتقاليد، الردع والجريمة، العقل والجنون، الحكمة والأحكام المسبقة.. مصر وكرواتيا.. مع الكثير من الإنصات إلى ما تقوله المدن.. والشوارع.. والطيور.. والأشجار.. وبالطبع، القطط.
وقف يدعو دُماه للحضور، جئن يتساءلن عمَّا يبتغيه السيد البروفسور، قال هل تَقْبَلْن بدعوتي لكُنَّ على رحلة إلى مدينة الدُّمى؟ صرخن وقفزن من الفرح، واندفعن يَغمُرْنَه بالقُبَل، وعكفن يتبادلن الحديث عمَّا سوف ترتديه كلٌّ منهن، وهن يتنافسن على أيِّهنَّ ستكون أكثر جَمالًا، وأيهن ستصبح أكثر جاذبية وإثارة. حدَّقَت فيه بعينَيْ ذِئبَةٍ شابَّة وسألته كم مانيكان سيصطحب؟ قال برعونةٍ: الجميع. سألته إذا كان سيُراقِصُهنَّ جميعًا على خشبة المرقص؟ إذا كان سيُقبِّلهنَّ بأَسْرِهنَّ عندما تظلم شاشة السينما، عمَّن سوف تحظى بمرافقته، قال: لا أحد، سوف أصطحب زوجتي المتوفاة. صرخن جميعا وهنَّ يتأوهن: أوووو... نوو... فاتن... لا مستر... هذا ظُلم بَيِّن، أنت لن تكفينا ونحن في حاجة لرجال. أضافت وعيناها تطقَّان بالشَّرر... قضية واضحة مستر، نحن في حاجة للصُّحبة.